الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
ومنه قول الآخر: [الطويل] ثم قال تعالى: {ولا شراباً إلا حميماً} فالاستثناء متصل والحميم: الحار الذائب وأكثر استعماله في الماء السخن والعرق ومنه الحمام، وقال ابن زيد: الحميم: دموع أعينهم، وقال النقاش: ويقال الحميم الصفر المذاب المتناهي الحر، واختلف الناس في الغساق، فقال قتادة والنخعي وجماعة: هو ما يسيل من أجسام أهل النار من صديد ونحوه، يقال: غسق الجرح: إذا سال منه قيح ودم، وغسقت العين: إذا دمعت وإذا خرج قذاها، وقال ابن عباس ومجاهد: الغساق: مشروب لهم مفرط الزمهرير، كأنه في الطرف الثاني من الحميم يشوي الوجوه ببرده، وقال عبد الله بن بريدة: الغساق: المنتن، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم وجماعة من الجمهور: {غسَاقاً}، بتخفيف السين وهو اسم على ما قدمناه، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن أبي إسحاق السبيعي والحكم بن عتبة وقتادة وابن وثاب: {غسّاقا}ً مشددة السين وهي صفة أقيمت مقام الموصوف، كأنه قال ومشروب غساق أي سائل من أبدانهم، وقوله تعالى: {وفاقاً} معناه لأعمالهم وكفرهم أي هو جزاؤهم الجدير بهم الموافق مع التحذير لأعمالهم فهي كفر، والجزاء: نار، و{يرجون} قال أبو عبيدة وغيره: معناه: يخافون، وقال غيره: الرجاء هنا على بابه، ولا رجاء إلا وهو مقترن بخوف ولا خوف إلا وهو مقترن برجاء، فذكر أحد القسمين لأن المقصد العبارة عن تكذيبهم كأنه قال: إنهم كانوا لا يصدقون بالحساب، فلذلك لا يرجونه ولا يخافونه، وقرأ جمهور الناس: {كِذّاباً} بشد الذال وكسر الكاف وهو مصدر بلغة بعض العرب، وهي يمانية ومنه قول أحدهم وهو يستفتي: ومنه قول الشاعر: [الطويل] وهذا عندهم مصدر من فعّل، وقال الطبري: لم يختلف القراء في هذا الموضع في {كذاباً}.قال القاضي أبو محمد: وأراه أراد السبعة، وأما في الشاذ، فقرأ علي بن أبي طالب وعوف الأعرابي وعيسى والأعمش وأبو رجاء: {كِذَاباً} بكسر الكاف وبتخفيف الذال، وقرأ عبد الله بن عمر بن عبد العزيز: {كُذّاباً} بضم الكاف وشد الذال على أنه جمع كاذب ونصبه على الحال قاله أبو حاتم، وقوله تعالى: {وكل شيء أحصيناه}، يريد كل شيء شأنه أن يحضر في هذا الخبر وربط لآخر القصة بأولها أي هم مكذبون وكافرون، ونحن قد أحصينا، فالقول لهم في الآخرة {ذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولما ذكر تعالى أمر أهل النار عقب بذكر أهل الجنة ليبين الفرق. والمفاز: موضع الفوز لأنهم زحزحوا على النار وأدخلوا الجنة. والحدائق: البساتين التي عليها حلق وجدارات وحظائر. و{أتراباً} معناه: على سن واحدة، والتربان هما اللذان مسا التراب في وقت واحد، والدهاق: المترعة فيما قال الجمهور، وقال ابن جبير معناه: المتتابعة وهي من الدهق، وقال عكرمة: هي الصفية، وفي البخاري قال ابن عباس: سمعت أبي في الجاهلية يقول للساقي: اسقنا كأساً دهاقاً، واللغو: سقط الكلام وهو ضروب، وقد تقدم القول في {كذاباً} إلا أن الكسائي من السبعة قرأ في هذا الموضع {كذَاباً} بالتخفيف وهو مصدر، ومنه قول الأعشى: [مجزوء الكامل] واختلف المتألون: في قوله: {حساباً}، فقال جمهور المفسرين واللغويين معناه: محسباً، كافياً في قولهم أحسبني هذا الأمر أي كفاني، ومنه حسبي الله، وقال مجاهد معناه: إن {حساباً} معناه بتقسط على الأعمال لأن نفس دخول الجنة برحمة الله وتفضله لا بعمل، والدرجات فيها والنعيم على قدر الأعمال، فإذا ضاعف الله لقوم حسناتهم بسبعمائة مثلاً ومنهم المكثر من الأعمال والمقل أخذ كل واحد سبعمائة بحسب عمله وكذلك في كل تضعيف، فالحساب ها هو موازنة أعمال القوم. وقرأ الجمهور {حِسَاباً}: بكسر الحاء وتخفيف السين المفتوحة، وقرأ ابن قطب {حَسّاباً}: بفتح الحاء وشد الشين. قال أبو الفتح جاء بالاسم من أفعل على فعال، كما قالوا أدرك فهو: دراك، فقرأ ابن عباس وسراج: {عطاء حسناً} بالنون من الحسن وحكى عنه المهدوي أنه قرأ {حَسْباً} بفتح الحاء وسكون السين والباء، وقرأ شريح بن يزيد الحمصي: {حِسَّاباً} بكسر الحاء وشد السين المفتوحة، وقرأ نافع وأبو عمرو والأعرج وأبو جعفر وشيبة وأهل الحرمين: ربُّ بالرفع، وكذلك الرحمنُ، وقرأ ابن عامر وعاصم وابن مسعود وابن أبي إسحاق وابن محيصن والأعمش {رب} وكذلك {الرحمن} وقرأ حمزة والكسائي {ربِّ}: بالخفض و{الرحمنُ} بالرفع وهي قراءة الحسين وابن وثاب وابن محيصن بخلاف عنه ووجوه هذه القراءات بينة، وقوله تعالى: {لا يملكون} الضمير للكفار أي {لا يملكون} من أفضاله وأجماله أن يخاطبوه بمعذرة ولا غيرها، وهذا في مواطن خاص.
وكأن هذه اللفظة في هذا التأويل مأخوذة من النشاط، وقال عطاء أيضاً وعكرمة: {الناشطات} الأوهان. ويقال: نشطت البعير والإنسان إذا ربطته ونشطته: إذا حللته، وحكاه الفراء وخولف فيه ومنه الحديث «كأنما أنشط من عقال»، وقال ابن عباس أيضاً: {الناشطات} النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج، والسبح: العوم في الماء، وقد يستعمل مجازاً في خرق الهواء والتقلب فيه، واختلف في {السابحات} في الآية، فقال قتادة والحسن: هي النجوم لأنها تسبح في فلك، وقال مجاهد وعلي رضي الله عنه: هي الملائكة لأنها تتصرف في الآفاق بأمر الله تجيء وتذهب، وقال أبو روق: {السابحات} الشمي والقمر والليل والنهار، وقال بعض المتأولين: {السابحات}: السماوات، لأنها كالعائمة في الهواء، وقال عطاء وجماعة: {السابحات}: الخيل، ويقال للفرس: سابح، وقال آخرون: {السابحات} الحيتان، دواب البحر فما دونها وذلك من عظيم المخلوقات، فروي أن الله تعالى بث في الدنيا ألف نوع من الحيوان، منها أربعمائة في البر وستمائة في البحر، وقال عطاء أيضاً: {السابحات}: السفن، وقال مجاهد أيضاً: {السابحات}: المنايا تسبح في نفوس الحيوان، واختلف الناس في {السابقات}، فقال مجاهد: هي الملائكة، وقيل الرياح وقال عطاء هي الخيل، وقيل: النجوم، وقيل المنايا تسبق الآمال، وقال الشاعر [عدي بن زيد]: [الخفيف] وأما {المدبرات}، فلا أحفظ خلافاً أنها الملائكة ومعناه أنها تدبر الأمور التي سخرها الله تعالى وصرفها فياه كالرياح والسحاب وسائر المخلوقات، وقال ابن زيد: {الراجفة}: الأرض تهتز بأهلها لنفخة الصور الأولى، وقيل: {الراجفة}: النفخة نفسها، و{الرادفة}: النفخة الأخرى، ويروى بينهما أربعين سنة، وقال عطاء: الراجفة: القيامة نفسها، و{الرادفة}: البعث، وقال ابن زيد: {الراجفة}: الموت، و{الرادفة}: الساعة، وقال أبي بن كعب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام وقال: «يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه»، ثم أخبر تعالى عن قلوب تجف ذلك اليوم، أي ترتعد خوفاً وفرقاً من العذاب، ووجيف القلب يكون من الفزع ويكون من الإشفاق، ومنه قول الشاعر قيس بن الحطيم: [المنسرحُ] ورفع {قلوب} بالابتداء وجاز ذلك وهي نكرة لأنها قد تخصصت بقوله: {يومئذ}، واختلف الناس في جواب القسم أي هو، فقال الفراء والزجاج: هو محذوف دل الظاهر عليه تقديره: لتبعثن أو لتعاقبن يوم القيامة، وقال بعض النحاة: هو في قوله تعالى: {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} [النازعات: 26]، وهذا ضعيف لبعد القول ولأن المعنى هالك يستحق ابن، وقال آخرون: هو في قوله: {يوم} على تقدير حذف اللام كأنه قال ليوم، وقال آخرون: وهو موجود في جملة قوله تعالى: {يوم ترجف الراجفة قلوب يومئذ راجفة} كأنه قال: لتجفن قلوب يوم كذا، ولما دلت على أصحابها ذكر بعد ذلك أبصارها، وخشوعها ذلها، وما يظهر فيها من الهم بالحال، وقوله تعالى: {يقولون} هي حكاية حالهم في الدنيا معناه: هم الذين يقولون وقولهم {أئنا} هو على جهة الاستخفاف والعجب والتكذيب، وقرأ ابن أبي إسحاق وابن يعمر: {أإنا} بهمزتين ومدة على الاستفهام، وقرأ جمهور القراء: {أئنا} باستفهام وهمزة واحدة، و{الحافرة} لفظة توقعها العرب على أول أمر رجع إليه من آخره، يقال: عاد فلان في الحافرة، إذا ارتكس في حال من الأحوال ومنه قول الشاعر: [الوافر] والمعنى: {أئنا لمردودون} إلى الحياة بعد مفارقتها بالموت، وقال مجاهد والخليل: {الحافرة} الأرض فاعلة بمعنى محفورة، وقيل بل هو على النسب أي ذات حفر، والمراد: القبور لأنها حفرت للموتى، فالمعنى {أئنا لمردودون} أحياء في قبورنا، وقال زيد بن أسلم: {الحافرة} في النار، وقرأ أبو حيوة {في الحفرة} بغير ألف، فقيل: هو بمعنى {الحافرة}، وقيل هي الأرض المنتنة المتغيرة بأجساد موتاها من قولهم حفرت أسنانه إذا تأكلت وتغير ريحها، والناخرة: المصوتة بالريح المجوفة، ومنه قول الشاعر: [الطويل] ويروى تصفر وناخرة، هي قراءة حمزة وعاصم في رواية أبي بكر وعمر بن الخطاب وابن مسعود وأبيّ بن كعب وابن عباس وابن الزبير ومسروق ومجاهد وجماعة سواهم، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والحسن والأعرج وأبو رجاء وجعفر وشيبة وأبو عبد الرحمن وابن جبير وأهل مكة وشبل وقتادة وأيوب والنخعي: نخرة، دون ألف بعد النون، ومعناه: بالية متعفنة قد صارت رميماً، يقال: نخر العود والعظم: إذ بلي وصار يتفتت، وحكي عن أبي عبيدة وأبي حاتم والفراء وغيرهم أن الناخرة والنخرة بمعنى واحد كطامع وطمع وحاذر وحذر، والأكثر من الناس على ما قدمناه. قال أبو عمرو بن العلاء: الناخرة التي لم يتنخر بعد والنخرة التي قد بليت.
|